جزيرة القرم واستراتيجية الأوهام الثلاث الأميركية

لا يمكن من ناحية منطقية، لواشنطن ولا لكييف، تجاهل تاريخا مديدا من الأهمية الاستراتيجية التي تشكلها جزيرة القرم لروسيا. ولكن في حال قررت واشنطن تجاهل هذه الحقيقة، وهذا ما تفعله الآن، فإن هذا يعني امرا واحدا، وهو ان اميركا تتقصد من جهة استفزاز موسكو، توصلا من جهة ثانية لاطالة مدة الحرب التي تعتقد واشنطن انه كلما طال امدها كلما نجحت خطتها باستنزاف روسيا وأوروبا على السواء في اتونها..

.. وتقوم  واشنطن باعتماد استراتيجية لاطالة أمد الحرب الاوكرانية، تستند على تنفيذ إمرين اساسيين إثنين: 

الاول تقديم الاغراءات الكاذبة والوعود المضللة لأوروبا،  كي تستمر لاطول فترة  بالتورط بتمويل وتسليح كييف ؛ وابرز الوعود والامال الكاذبة التي تقدمها واشنطن للاوروبيين في هذا المجال، هي  ” إيهام ” عاصمتي القرار في اوروبا (  المانيا وفرنسا ) بأن ” هناك  امكانية لهزيمة روسيا في أوكرانيا”؛ وانه يجب على اوروبا وضع كل ثقلها في تمويل وتسليح كييف لتحقيق هذا الهدف.

.. ويبدو ان كلا من باريس وبرلين وقعتا في هذا الفخ الاميركي،  بدليل التصريحين اللذين صدرا مؤخرا عن فرنسا والمانيا، وفحواهما ” ان الوقت الآن ليس للحوار مع روسيا في اوكرانيا، بل لإستمرار  الحرب”!!.

قراءة المزيد: جزيرة القرم واستراتيجية الأوهام الثلاث الأميركية

الأمر الثاني الذي تسعى واشنطن لتحقيقه بهدف إطالة أمد الحرب واستنزاف روسيا واوروبا في اتونها ، هو الحرص على ضرب أية فرصة أو جهد يحاول السعي لإنهاء الحرب في اوكرانيا ..  وترى واشنطن ان الوسيلة الأفضل التي تحول دون السماح  بالتوصل لتسوية تنهي الحرب الاوكرانية، هي  تكبيل كييف ودول الناتو والغرب بالتزام  مسبق، يقول انه لا سلم في أوكرانيا من دون نزع سلاح جزيرة القرم،  ومن دون اعتراف موسكو بأن القرم هي جزء من وحدة أراضيها التي من دون ضمانها لا يتحقق السلم بين روسيا واوكرانيا (!!). 

ان واشنطن وجماعة زيلنسكي في كييف،  يدركون تماما أن ربط وقف الحرب بشرط أن تخضع القرم لسيطرة اوكرانيا ، سيؤكد لموسكو بأنه لا كييف ولا واشنطن ترغبان بابرام تسوية معقولة معها لوقف الحرب في اوكرانيا؛ خاصة وان واشنطن وكييف تعلمان ان موسكو تعتبر اي محاولة سياسية كانت أم عسكرية لالحاق القرم باوكرانيا، هي بمثابة تجاوز للخطوط الحمر الروسية، ما يجعل موسكو ترد عليها بكل امكاناتها الدفاعية.

وهذا الموقف الروسي الحاسم والثابت من حقها في القرم، كانت اختبرته كييف عمليا، وذلك بدليل  ان السبب الذي قاد موسكو لتنفيذ العملية العسكرية الخاصة الحالية في اوكرانيا ، هو قرارها  بحماية القرم،  وذلك ردا على اعلان زيلنسكي حينها بأنه يتجه لشن هجوم مرتقب ضد القرم.. كما ان  كييف اختبرت عمليا كيف ان قيامها بالتفجير الارهابي للجسر في القرم. جعل موسكو ترد عليه بتنفيذ حملة استراتيجية استهدفت تدمير البنى التحتية الاوكرانية . وعليه؛ فإنه اذا كانت كييف ، وبالاساس اذا كانت ادارة بايدن،  تدرك بالدلائل السابقة العملية وبالتوقعات الواضحة، ان روسيا لن تقبل تحت اي ظرف بالتخلي عن جزيرة القرم ،  وانها سترد بكل امكاناتها الدفاعية الضخمة على اية محاولة من الناتو او كييف من هذا النوع. فإنه يصبح واضحا لماذا تصر واشنطن على رفع شعار انه قبل نزع سلاح القرم لن يتم التوصل لوقف الحرب الاوكرانية!!. ان هدف إدارة بايدن من ذلك، هو استخدام طرح قضية اعادة جزيرة القرم الى اوكرانيا ، كمصيدة  لقتل فرص التسوية في اوكرانيا من ناحية ، ولتحميل روسيا مسؤولية فشل التسوية هناك ، ما يجعل واشنطن تبعد نفسها عن الشبهات وهي تمعن بتحقيق خطتها الهادفة لاطالة أمد الحرب الاوكرانية ما يحقق أبرز اهدافها المتمثلة باستنزاف روسيا وأوروبا ..

 وفي هذا السياق يمكن القول بثقة،  ان هناك معيارا اساسيا، صار يمكن للعالم من خلاله فحص صدق  أو كذب  نوايا واشنطن بخصوص رغبتها بابرام تسوية للصراع في اوكرانيا، ومفاد هذا المعيار هو موقفها من القرم : ففي حال استمرت واشنطن – ومعها كييف-  بالاصرار  على ان السلام في اوكرانيا يشترط  فصل جزيرة القرم  عن روسيا، وضمه لاوكرانيا ،  فهذا يعني بوضوح  ان  الغرب يتلطى وراء هذا الموقف ليبرر رغبته بعدم ابرام تسوية وسلام  في اوكرانيا.. اما اذا اعترفت واشنطن بالحقوق والاعتبارات الروسية في القرم واوكرانيا؛ فإن هذا يعني ان إدارة بايدن راجعت خطأها المتمثل بالتخطيط لاشعال حرب اوكرانيا التي أدت إلى تهديد  الأمن الغذائي والاقتصادي باخطار جسيمة، والى تعريض اقتصاديات اوروبا والشرق الاوسط وكل الاسواق العالمية  الناشئة لتعثرات كبيرة. 

  وضمن هذا السياق يمكن القول ايضا أن أي مساندة من قبل دول أوروبا والشرق الأوسط لادعاء اميركا المضلل بان شرط وقف الحرب الاوكرانية هو استعادة كييف للقرم، انما يخدم خطة واشنطن الهادفة لاستمرار حرب اوكرانيا واطالة امدها،  وذلك على حساب مصالح السلم والامن العالمي. 

ولعل اخطر فكرة تسوقها حاليا اميركا عالميا وخاصة في اوروبا، هي الايحاء بأن هزيمة روسيا في أوكرانيا ممكنة، فيما لو دعمت اوروبا مجهود كييف التسليحي والحربي حتى النهاية. ويبدو ان الاوروبيين يسيرون كمسحورين وراء وهمين اثنين  تسوقه لهما  ادارة بايدن؛ ومفاد اولهما ” ان النصر على روسيا في اوكرانيا يجب ان يكون هدف الغرب الاستراتيجي  في الحرب  الاوكرانية “؛ والثاني يفيد ان  اخذ صورة النصر على روسيا في اوكرانيا ، ستتم من خلال مشهد ارغام روسيا على الخروج من القرم ، ودخول الناتو والجيش الاوكراني إليها كمحررين لها من الاحتلال الروسي”..

.. وقبل ايام صرحت واشنطن بأنه لن يكون هناك سلاما في اوكرانيا الا اذا تم نزع السلاح من القرم.. وواضح ان هذا التصريح يأتي في إطار وضع سقف عال لأية جهة دولية تريد التحرك من أجل إنهاء حرب اوكرانيا.. وبالأساس فإن هذا التصريح الأميركي يعكس رغبة واشنطن باحراج اية جهة اوروبية تريد رفع الصوت اعتراضا على الاستمرار في الحرب.

وفي هذه الجزئية يجب ملاحظة ان حرب اوكرانيا تمر حاليا في  لحظة بدء الحسم الروسي  على الجبهات العسكرية والسياسية  التي يوجد فيها ثقل استراتيجي ( التقدم الروسي مؤخرا على جبهة باخموت ومناطق الدونباس  ) والتي  يؤدي التعامل معها بالقوة المطلوبة – وهي قوة  تملكها موسكو وبدأت تمارسها –  إلى التسريع في إرغام حكام كييف والاوروبيين على التخلى عن الإستمرار بمسايرة وهم إمكانية تحقيق النصر على  موسكو في أوكرانيا، وايضا الاستمرار في تصديق وهم اخراج روسيا من القرم.

.. والفارق الجوهري الذي يحدث اليوم هو انه بينما روسيا تبنت عند  بدء عمليتها العسكرية الخاصة في اوكرانيا، مبدأ الاقتصاد بممارسة القوة العسكرية، نظرا لاعتبارات تخص رؤية ونظرة روسيا لجارتها اوكرانيا ، فإن روسيا اليوم تتجه لممارسة  القوة المطلوبة  في الجبهات التي تعتبرها جبهات تتسم  بثقل سياسي وعسكري واستراتيجي،  وسيؤدي التعامل معها بالقوة العسكرية  المطلوبة إلى  زيادة الضغط على كييف لارغامها على التفلت من  الدوران في فلك اوهام  استراتيجيات الناتو وادارة بايدن..   ولكن يلاحظ ان واشنطن في آخر محاولاتها للاستمرار بتسويق فكرة ان هزيمة روسيا في أوكرانيا ممكنة ، بدأت تروج لما يسمى صورة النصرة قي القرم..

..  وبحسب تسريبات اميركية،  فإن تحقق هذا السيناريو يفترض من ناحية توفر ظروف تسمح للناتو بالتدخل المباشر في حرب اوكرانيا؛ ويفترض من ناحية ثانية توفر  ظروف تسمح  بارغام روسيا على الانسحاب من القرم؛ وحينها سيتم أخذ “صورة النصر الغربي ” على روسيا في اوكرانيا.

 وتستمر واشنطن بمحاولة القفز عن حقائق القوة الروسية في اوكرانيا، عبر الامعان في  تسويق “ورقة وهم لدى كييف والاوروبيين، تتحدث عن ” إمكانية هزيمة روسيا في أوكرانيا”.

وتمارس واشنطن تسويق هذا الوهم عن طريق الترويج لخطة تفيد بأنه في لحظة توفر  “ظرف مناسب”، فإنه سيكون ممكنا  لاوكرانيا بدعم من الناتو أو حتى – لو توفر الظرف – بمشاركة فعلية من الناتو،  “شن عملية عسكرية خاطفة ” تدوم ” بضعة شهور”  تؤدي إلى اخراج روسيا من جزيرة القرم، والقيام عندها باعلان انتهاء  حرب اوكرانيا بانتصار الغرب، وعبر  اخذ “صورة النصر على موسكو” التي تنقل إلى العالم صورة  خروج الجيش الروسي من جزيرة القرم، ودخول جيش كييف والناتو اليها بمشهد المنتصر ، وذلك ” تحت يافطة تحريرها من الاحتلال الروسي واعادتها لسيادة كييف الديموقراطية والحرة (!!)” .

 ..ولعل  الباحث الفرنسي  برونو تيرتريه، نائب مدير مؤسسة البحوث الإستراتيجية، هو اكثر من يقدم صورة واضحة عن ما يسمى ” بسيناريو  واشنطن لأخذ صورة النصر على موسكو في القرم”.

يعدد تيرتريه في مقالة نشرها مؤخرا في  مجلة ” لوبوان” الفرنسية ما يسميه الأسباب التي تسمح للغرب بالتدخل المباشر في حرب اوكرانيا إلى جانب كييف ضد روسيا، ويختصر هذه الأسباب بثلاثة تطورات و حالات ؛ اولها ان تقوم روسيا بمهاجمة اراض أوروبية ، والثاني استخدام روسيا الأسلحة الكيميائية او اختراق الجيش الروسي نحو أوديسا، وتحقيق “الربط الإقليمي” بين أراضيه وترانسنيستريا بمولدوفا، مما يجعل رومانيا التي هي عضو في حلف شمال الأطلسي ناتو، تشعر بالتهديد.

أما الحالة او التطور الثالث الذي يتقصد تيرتريه تعميمه، فهو يتحدث عن ” سيناريو قيام كييف  باطلاق  عملية عسكرية خاطفة لاستعادة أراضيها من روسيا، والمقصود هنا جزيرة القرم… ويطلق تيرتريه على هذا السيناريو وصف انها عملية خاطفة تدوم لعدة شهور، كما فعلت كرواتيا صيف عام 1995.

 ورغم أن تيرتريه يعترف بأنه ربما كان سيناريو شن أوكرانيا عملية عسكرية خاطفة لاستعادة القرم يشارك بها الناتو، هو امر مستبعد اليوم، الا أن تيرتريه يقول ان حدوث هذا الامر قد لا يكون وفق الخطط الأميركية والناتو  أمرا  مستبعدا غدا، ذلك  انه حق المراقب ان يستبق الامور ويتساءل منذ الآن  عن دلالة تصريح الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، الذي قال فيه يوم 15 مايو/أيار الماضي إن أوكرانيا “يمكنها الانتصار في الحرب على روسيا “؛ لأن مفهوم “كسب الحرب” قد يكون له معنى مختلف لدى كييف وواشنطن وبروكسل، إذ تؤيد الدول الغربية دائما مبدأ وحدة أراضي أوكرانيا، اي شن حرب لاستعادة القرم (!!).

وهنا، ينبه تيرتريه إلى ما أكده زعماء مجموعة السبع للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من “تضامنهم الكامل ودعمهم أوكرانيا التي تدافع بشجاعة عن سيادتها وسلامتها الإقليمية من أجل مستقبل سلمي ومزدهر وديمقراطية داخل حدودها المعترف بها”، في إشارة بحسب تيرتريه الى أنهم لا يعترفون بانفصال الدونباس ولا بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا ..

لم يعد خافيا ان واشنطن تقود اوروبا إلى استنزافها في اوكرانيا ، وتقود سلطة كييف  إلى الاسهام في استكمال  حرق بلدها، وذلك  من خلال الايحاء إلى هذه الأطراف بثلاثة اوهام مدمرة لها ولاقتصاديات العالم: الأول أن الإستمرار بالحرب يجعل امكانية هزيمة روسيا في اوكرانيا ممكنة. والثاني ان  عدم اعتراف الغرب وكييف بضم روسيا  للقرم،   هو المدخل الوحيد للسلام في اوكرانيا.  والثالث ان المطلوب انتظار “ظرف” يبرر  للغرب التدخل الفعلي في اوكرانيا لتحقيق هزيمة روسيا هناك ؛ وحينها سيكون ممكنا – دائما بحسب مخيلة ادارة بايدن- اخذ صورة النصر الغربي على روسيا من خلال نقل مشهد تلفزيوني للعالم يظهر انسحاب الجيش الروسي منهزما من القرم ودخول جيوش الناتو واوكرانيا منتصرين الى الجزيرة.. وهذه الصورة سيكون لها من حيث معناها السياسي الاستراتيجي-  بحسب استراتيجية الاوهام الثلاث الأميركية-  نفس المعنى الاستراتيجي لانهيار جدار برلين الذي اشار انذاك الى رمزية انهيار الاتحاد السوفياتي وانتصار الغرب.. ان ما يمكن تسميته باستراتيجية الأوهام الأميركية الثلاث ( ١- امكانية النصر على روسيا في اوكرانيا؛ ٢- اخراج روسيا من القرم ؛ ٣- جعل صورة اخراج روسيا من القرم تشبه بمعناها السياسي انهيار جدار برلين) ،  لن تقود بالطبع إلى تحقيق السيناريوهات التي نقلها عن احلام الناتو،  تيرتريه في مقالة  بمجلة  لوبوان، بل ستقود بالتأكيد الى المزيد من التداعيات الكارثية على اقتصاديات العالم وبضمنه اقتصاديات اوروبا والشرق الاوسط.

أضف تعليق