واشنطن تضع مستقبل  ليبيا تحت  قيادة  “أفريكوم”

خلال العام الماضي انتقل ملف الأزمة الليبية الى عهدة الرعاية الدولية، وجرى تفاهم دولي مبدئي على خارطة طريق للحل في ليبيا، تشتمل على توحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية وإجراء إنتخابات رئاسية ونيابية قي نهاية هذا العام.. ومنذ ذلك التاريخ دخلت الأزمة الليبية من مرحلة الغموض الدولي بشأنها، الى مرحلة الصراع الدولي البارد حولها.

.. وكان يمكن للمرحلة الجديدة التي تمر بها ليبيا حالياً، أن تشكل فعلياً تفاهماً دولياً ينهي الأزمة الليبية التي  كبدت الشعب الليبي خسائر كبيرة ومعاناة مرعبة، لو أن وشنطن لا تنظر الى  مناسبة حل الأزمة الليبية، بوصفها فرصة إستراتيجية لبناء منصة جديدة لخدمة مصالحها في القارة الإفريقية، وذلك على حساب مصالح ليبيا، وأيضاً على حساب علاقات ليبيا التاريخية مع بلدان كثيرة. بمعنى آخر، فإن واشنطن اليوم في ليبيا لا تقود اللحظة الدولية لإنجاز حل ليبي لمصلحة إنهاء أزمتها و إستقرار منطقتها، وتدشين حالة سلم أهلي مستدام في ليبيا، بل ما تفعله واشنطن هو شن حرب سياسية وتكتيكية باردة في ليبيا، ومنها في كل أفريقيا، وذلك ضد قوى إقليمية ودولية. لقد رتبت إدارة بايدن خطتها في ليبيا على النحو التالي:

أولا” – إخراج دول كان لها علاقات تاريخية مع طرابلس الغرب، من ليبيا. وعلى رأس هذه الدول روسيا. وفي مرحلة أولى تريد واشنطن جعل الدول قديمة العلاقة بليبيا، مثل روسيا وتركيا، مدرجة على لائحة المصنفين بأنهم أعداء العملية السلمية في ليبيا، وذلك من خلال جعل بند إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، يحتل البند الأول في كل بيانات الإجتماعات الدولية من أجل ليبيا. ثم تغرق واشنطن الإعلام العالمي بتقدير يفيد بأن  المقصود بالتواجد العسكري الأجنبي في ليبيا المطلوب اخراجه، هو قوات تركيا ومرتزقة روسيا. أن الهدف الأميركي الملح حاليا” هو  إخراج روسيا من مساحة التفاعل الدولي الإيجابي الساعي لحل الأزمة الليبية، وبعد ذلك تريد واشنطن بلورة خارطة حكم ونظام في ليبيا، معاد لوجود أية مصالح لموسكو من ليبيا، وإستكمالا” تريد واشنطن على المستوى الاستراتيجي اخراج موسكو من كل منطقة جوار ليبيا الأفريقية.

ثانياً – بناء عملية سلمية في ليبيا تحت اسم المجتمع الدولي، ولكن بالعمق تعمل واشنطن عبر خط مواز لمساعي المجتمع الدولي، حيث تقوم ببناء علاقات عسكرية وسياسية خلفية مع الأطراف الليبية كافة.

ثالثا” – كان ترامب قرر الإستمرار بسياسة الإنسحاب من عملية التدخل في ليبيا، ولكن إدارة بايدن أخذت قرارا بتفعيل التدخل الأميركي في ليبيا، وإيلاء هذا الملف الى مستويين من أذرع القرار الأميركي : الأول :  القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا “افريكوم” ،  ويساعدها مبعوث واشنطن الى ليبيا وسفيرها هناك، والثاني إيلاء هذا الملف الليبي لعناية نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس شخصياً.

رؤية بايدين تتضح في ليبيا:

وتتقاطع الكثير من المعلومات التي تفيد بأنه لقد بدأت مؤخرا” تتضح رؤية سياسة الإدارة الأميركية الجديدة في ليبيا، بعد ان كانت الولايات المتحدة الأميركية مارست لسنوات طويلة سياسة غموض في ليبيا، كان لها اثارها في تأخير وقف الحرب في ذاك البلد، وفتح ممرات لسكك الارهاب من ليبيا الى جوارها الأفريقي والعربي، وبالعكس.

ويمكن وضع ثلاثة عناوين  لما تريده الرؤية الأميركية في ليبيا:

العنوان الأول هو وضع حاضر ليبيا ومستقبلها الجديد في عهدة “افريكوم” اي القيادة العسكرية الأميركية  في أفريقيا.

العنوان الثاني هو أخذ نتائج الإنتخابات الليبية المزمع عقدها نهاية هذا العام الى حصيلة تساوي جعل القوى الليبية الممثلة في البرلمان الليبي الجديد تنتمي لثلاثة أقسام،  يربط بينها جميعها، أنها إما حليفة بالكامل لواشنطن (كالقوى المدنية الممولة من وكالات تنمية غربية)، وإما قوى تقليدية لها صلات برجال أعمال ليبيين لديهم مصالح خاصة تجاه حماية أموالهم، وبخاصة من العقوبات الأميركية،كون قسم كبير منهم متهم بالفساد، ويوجد بين هذه القوى المالية وبين واشنطن علاقات مصلحية بخصوص نقاط معينة، وإما القسم الثالث فهو عبارة عن قوى مدعومة من المؤسسات الأمنية في ليبيا، و التي تعمل واشنطن في الفترة الأخيرة على ربطها بقيادة “افريكوم”. 

العنوان الثالث لرؤية إدارة بايدن في ليبيا، هو تحديدا” يركز على إخراج روسيا بدرجة أولى وتركيا بدرجة ثانية من ليبيا.

بخصوص تفاصيل العنوان الأول ، فإن واشنطن بدأت على نحو واضح بتوكيل ” افراكوم” القيادة الأميركية العسكرية  في أفريقيا، وضع يدها على مباحثات لجنة ” 5 زائد 5″ العسكرية الليبية المشتركة،  والتي تضم تطبيقا لمندرجات خارطة الحل السلمي في ليبيا، معظم القيادات العسكرية من منطقتي شرق وغرب ليبيا المتصارعتين، وتهتم لجنة ” 5 زائد 5″ بتوحيد المؤسسات العسكرية والأمنية في ليبيا التي تشظت بسبب الحرب الأهلية، وبتخطيط الدور العسكري الليبي على اساس وطني وبتحقيق هدف حماية البلد وسلطة الدولة.

وخلال الأشهر الماضية واجهت أعمال هذه اللجنة الكثير من التعثر، وعجزت إجتماعاتها التي حصلت فعلا – هناك إجتماعات لم يتم عقدها بسبب الخلافات بين أعضائها- عن التوصل الى نتائج عملية، وأكثر من ذلك فإن خلافات الأطراف السياسية والجهوية  الليبية، انعكست سلباً على أعمال هذه اللجنة.

وبعد صمت طويل من قبلها على مسار تعثر لجنة 5 زائد 5، وقيامها سراً بتغذية الخلافات فيها، قامت واشنطن  فجأة بوضع كل أطراف اللجنة 5 زائد 5 ، بشكل غير مباشر تحت جناح قيادة افريكوم، حيث قام  قائدها ” لاستيف تاونسندو” ( قائد  افريكوم )، بدعوة اللجنة 5 زائد 5 لعقد إجتماع لها في طرابلس الغرب، وذلك بحضوره ورعايته، وشاركه في حضور هذا الإجتماع المبعوث الأميركي لليبيا والسفير الأميركي في ليبيا “نورلاند”.

.. وبدا واضحاً أن إجتماع طرابلس الأخير للجنة 5 زائد 5 العسكرية الليبية، كان وراؤه تخطيطا” وتصميماً وأهدافاً، قيادة افريكوم، وبدا واضحاً أيضا أن السياسة الدبلوماسية الأميركية  في ليبيا التي يمثلها السفير نورلاند، أصبحت أيضا موضوعة بتصرف خدمة خطط قيادة أفريكوم. وهكذا يتضح أن إدارة بايدن لا تسعى لحل سياسي في ليبيا ومن أجل ليبيا، بقدر ما تسعى لفرض ترتيبات عسكرية في ليبيا، ترسم بناء على موازينها خارطة ليبيا السياسية المستقبلية، وذلك على نحو يراعي إستراتيجية الولايات المتحدة العسكرية والإقتصادية في القارة الأفريقية ويندمج في تكتيكاتها وأهدافها  .

أما فيما يتعلق بالعنوان الثاني والذي له صلة بإنشاء بنية تحتية سياسية ليبية جديدة منقادة بالكامل من مصالحها المختلفة مع واشنطن، فيمكن تتبع هذا الخيط في السياسة الأميركة من خلال ملاحظة المعطيات التالية:

المعطى الأول، هو إمتناع إدارة بايدن عن ممارسة سياسة عقوبات على القوى والشخصيات الليبية  التي تعرقل عملية توجه ليبيا لتنفيذ مندرجات الخطة الدولية – الليبية لإحلال السلام في ليبيا وإعادة إنتاج الدولة. وطرحت واشنطن بدل ذلك أنها ستكتفي بممارسة ضغوط سياسية على هذه القوى. وما إتضح لاحقاً، هو أن إدارة بايدن تريد تنفيذ خطوات تدجينية لهذه القوى المعرقلة، وللمموليهم الذين هم من رجال الأعمال الليبيين، وذلك عبر وضع كل هذه المنظومة السياسية والمالية الليبية، أمام المعادلة الأميركية التالية:  إما الإنخراط بالأجندة الأميركية في ليبيا، أو إخضاعها لعقوبات مالية بتهمة الفساد وعرقلة الخارطة السياسية الليبية السلمية الداخلية.

ويبدو أن إدارة بايدن تبنى منظومة سياسية جديدة في ليبيا، تبدو واجهتها قوى مدنية بينما باطنها تحالف قوى سياسية مع متمولين عليهم شبهات فساد. وهذا ما جعل واشنطن تدعم وراء الستارة إقرار قانون في نظام الإنتخابات الليبي الجديد، يقر الترشح للإنتخابات على اساس فردي وليس على أساس ترشح كتل حزبية. أن مشروع إدارة بايدن الذي تشرف عليه شخصيا في هذه المرحلة كامالا هاريس هو إنتقاء برلمان ليبي جديد يتكون من شخصيات مرتبطة بمتمولين منقادين من واشنطن، و لها واجهات حزبية، وليس شخصيات تمثل أحزاب فعلية، ولديها قاعدة شعبية حزبية مسؤولة أمامها.

المعطى الثاني يتعلق بأن واشنطن أقامت علاقات خلفية مع كل القوى السياسية الليبية المتناحرة، وتعاملت مع هذه القوى وفق أجندة أميركية في ليبيا، وليس وفق أجندة خارطة السلام الليبية كما صاغتها الإجتماعات الدولية والليبية الخاصة ببحث عملية السلم الليبي. وبهذا المعنى يظهر ان واشنطن  تقصدت  أن تخلق مسارا” مواز لصالحها بمقابل مسار العملية السلمية المعنلة.

المعطى الثالث يتعلق بحماية الإنتخابات المزمع عقدها في ليبيا، وهنا يأتي دور طغيان الهيمنة الأميركية على لجنة 5 زائد 5 العسكرية الليبية، حيث ان قرار حماية هذه الإنتخابات أصبح بيد واشنطن، وبالتالي فإن قرار إجرائها من عدم إجرائها، وأيضا” رسم مناخ يوم الإنتخابات ، أصبح بيد واشنطن، وقيادة أفريكوم التي يعاونها سفير ومبعوث واشنطن الى ليبيا.

البنتاغون : روسيا عدو إستراتيجي:

وفيما يتعلق بتفاصيل العنوان الثالث الذي يتضمن سعي واشنطن لإخراج موسكو من ليبيا، وإعتبار هذا الهدف هو هدف إستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية في ليبيا، فمن الجدير ذكره في هذا المجال إدراج الملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: خلال الآونة الأخيرة بدأت الإدارة الأميركية الجديدة تتجه لتفعيل إنخراطها بالساحة الليبية، وذلك عبر أكثر من أسلوب: 

الأول هو عن طريق نشاطها الدبلوماسي مع باريس وتزخيم صلاتها بقطبي الحكم في ليبيا: رئيس الحكومة الليبية الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي.

الأسلوب الثاني يتمثل بتوسل تمويل نحو مئة حزب ليبي جديد مدعوم من برامج أميركية ومن متمولين لهم صلة بواشنطن ولديهم ملفات فساد قديمة أو مؤجلة في إدراج المحاكم. وسترشح هذه الأحزاب المئة شخصيات من قبلها لخوض الإنتخابات النيابية. 

الأسلوب الثالث هو عبر ربط تقصد واشنطن ان تجعل الجهة الموكلة بمتاعبة كل صلاتها باللجنة العسكرية المشتركة الليبية 5 زائد 5، محصورة بقيادة أفريكوم المسؤولة عن القوات الأميركية في القارة الافريقية.

وضمن هذا السياق تتجه واشنطن لجعل ليبيا أحد منصات عملياتها الجديدة في القارة الأفريقية، وهي تضغط لتحقيق هذا الهدف بإتجاهين، منع عودة العلاقة التاريخية، وبخاصة العسكرية، بين ليبيا وروسيا، وقطع اية صلة للجيش الليبي بموسكو.

.. أما الإتجاه الثاني الذي تراهن عليه واشنطن هو جعل الوجود العسكري التركي في ليبيا ضمن خطط الناتو فيما لو عجزت واشنطن عن إرغام أنقرة على سحب قواتها من ليبيا. وسوف تكون هذه النقطة هي أحد مواضيع الحوار الذي سيدور بين بايدن وأردوغان خلال الفترة المقبلة القريبة.

الملاحظة الثانية تتمثل بأن إدارة بايدن تنظر لأي وجود روسي أو مصالح روسية في ليبيا، إنطلاقا” من نظرة البنتاغون لروسيا التي تتسم بأنها نظرة عدائية عقائدية، حيث الجيش الأميركي يرى في روسيا عدواً عقائدياً.  الملاحظة الثالثة تتصل بأن واشنطن تريد، بحسب معلومات دبلوماسية، ممارسة عدة أنماط من الضغوط لإخراج القوات الأجنبية من ليبيا، فمثلا” ، تريد أن تفرض على تركيا ضغوطا” سياسية، وعلى المرتزقة الأفارقة تريد أن  تفرض ضغوط أمنية، تقوم بها منظومات الأمن في تشاد والسودان والنيجر، وذلك بالتشارك مع اللجنة العسكرية المشتركة الليبية 5 زائد 5. وهذا الأمر اقترحته فعلياً واشنطن في آخر إحتماعين برعايتها للجنة 5 زائد 5 اللذين عقدا في طرابلس الغر ب وفي القاهرة. أما النمط الثالث من الضغوط فهو عقوبات مباشرة أوروبية وأميركية على روسيا تحت حجة أن على موسكو سحب مرتزقتها العاملين ضمن مؤسسات أمنية تجارية، من ليبيا.